بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس محمود عباس، وقال فيه: إنّ المصالحة تعني الانتخابات، وأنه لا حوار آخر مع "حماس" إلا إذا سمحت للجنة الانتخابات باستئناف تسجيل الناخبين في قطاع غزة، وبعد رد فعل "حماس" الشديد الذي وصف عباس بـ"رأس الفتنة"، وأنّ لا مصالحة من دون التخلص منه؛ بات واضحًا أكثر من أي وقت مضى أن المصالحة بعيدة المنال.
تأسيسًا على هذا الاستنتاج، لم يعد مُجديًا استمرار الجهود والمبادرات والتحركات الرامية إلى دعم وتطوير مسار المصالحة الوطنيّة، أو تركيز العمل على تطبيق الاتفاقات المبرمة، بل لا بد من البحث عن مسار جديد مختلف نوعيًّا.
بعد تأمل طويل وعميق؛ توصّلت إلى قناعة بأن جذر الفشل في تحقيق المصالحة يعود أولًا وأساسًا إلى البحث فيها بحد ذاتها بمعزل عن حل المأزق الشامل الذي تواجهه القضيّة الفلسطينيّة، وأداةُ تجسيدها الشعبُ الفلسطينيُ وحركتُه السياسيةُ بشقيها الوطنيّ والإسلاميّ.
إن مسار البحث عن المصالحة أخفق لأن الشغل الشاغل للأطراف المتنازعة وتلك الساعية لحل النزاع الداخلي تمحور على توزيع "كعكة السلطة"، واستبعاد المنظمة أو التعامل معها كمجرد ملف من ملفات خمسة يتم الاقتراب منه أحيانًا واستبعاده غالبًا.
لقد أصبح تشكيل الحكومة ولجنة الانتخابات واللجنة الأمنيّة، أي المحاصصة في السلطة، هو الأمر الذي يحتل الأولويّة، في حين أن ما يجب أن يحظى بالاهتمام هو وضع السلطة في النظام السياسي، ومكانتها، ووظائفها، وشكلها، والتزاماتها، ومدى الحاجة إلى استمرارها بالشكل الذي ولدت فيه بعد أن اتّضح أن مسار المفاوضات الثنائيّة واتفاق أوسلو وما ترتب عليه من ملاحقَ والتزاماتٍ، لا يقود إلى إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير، بل أدى إلى جعل الحل الانتقالي المؤقت، الذي كان من المفترض أن ينتهي باتفاق نهائي في أيار في العام 1999، حلًا مفتوحًا إلى أجل غير مسمى.
هذا على الرغم من أن إسرائيل - وأقول إسرائيل، وليس حكومة نتنياهو أو حكومة بعينها، بل مجمل الحكومات الإسرائيليّة التي تعاقبت على الحكم منذ توقيع اتفاق أوسلو-؛ تجاوزت اتفاق أوسلو بالرغم من مزاياه الهائلة لها، لأنه باعتقادها أعطى الفلسطينيين أكثر مما يستحقونه، أو أكثر مما يستطيعون الحصول عليه استنادًا إلى قوتهم الذاتيّة ومصادر دعمهم العربيّة والدوليّة. لذا أخذت إسرائيل منذ اغتيال إسحاق رابين تعيد صياغة أوسلو بما يحقق مصالحها وأهدافها ودون مراعاة مصالح الفلسطينيين.
في هذا السياق، ارتدت إسرائيل عن أوسلو مع تمسكها بالالتزامات الفلسطينيّة فيه، وبدأت عمليّة أخرى، خصوصًا بعد فشل قمة كامب ديفيد في العام 2000، حيث استهدفت فيها تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستيطان، واستمرار العدوان، والحصار، وبناء جدار الفصل العنصري، وتعميق فصل القدس عن بقيّة الأراضي المحتلة عام 1967، وفصل الضفة عن القطاع، والأراضي (ج) عن أراضي (أ) و(ب)، وفعلت كل ما يمكن فعله لقطع الطريق على قيام دولة فلسطينيّة، والسعي لبقاء السلطة كسلطة حكم ذاتي منقوص على الأرض، ووكيل أمني للاحتلال، وترتيب دائم من دون أفق للتحول إلى دولة حقيقية.
لذلك كله يكون الأمر الحاسم، الذي يستحق أن تكون له الأولويّة لدى الفلسطينيين، التخلص من الحل الانتقالي طويل الأمد متعدد المراحل، الذي يتم فيه ضياع الأرض والقضيّة والإنسان بالتدريج وخطوة خطوة، ومع نهاية مؤكدة وهي تصفية القضيّة الفلسطينيّة بوصفها قضيّة تحرر وطني، وتحولها إلى قضيّة إنسانيّة تتعلق بتقديم مساعدات أو بـ"حل النزاع" بين سلطة الحكم الذاتي وسلطة الاحتلال، من أجل توسيع صلاحياتها في الحكم الذاتي في إطار واضح وثابت من السيادة الإسرائيليّة على ما فوق الأرض، وتحتها، والحدود، والأجواء، والبحار.
إن فشل الجهود والمبادرات لتحقيق المصالحة يعود إلى التزامها بالحفاظ على الوضع الراهن المحكوم باتفاقات والتزامات مجحفة بالفلسطينيين.
إن هذا المنهج جعل إسرائيل هي المتحكمة بالمصالحة، فهي التي وضعت الشروط للاعتراف بـ"حماس" أو بأي حكومة تشارك فيها "حماس" أو تشارك في تشكيلها وإعطائها الشرعيّة من خلال منحها الثقة في المجلس التشريعي الذي تحظى فيه بالأغلبيّة.
هذه الشروط (شروط الرباعية الدولية) تتضمن: الاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف والإرهاب، والالتزام بتطبيق الاتفاقيات التي وقعتها المنظمة مع إسرائيل، خصوصًا فيما يتعلق بالتنسيق الأمني، وتطبيق اتفاقيّة باريس التي تتضمن تبعيّة الاقتصاد الفلسطيني بالكامل للاقتصاد الإسرائيلي.
على هذا الأساس، أصبح التركيز على أن يحظى أي اتفاق للمصالحة بموافقة المجتمع الدولي، أي الولايات المتحدة وإسرائيل.
وعلى هذا الأساس أيضًا تم التركيز على مسألة تشكيل الحكومة، وتغيرت من حكومة وحدة وطنيّة تشارك فيها الفصائل إلى حكومة مستقلين، ومن حكومة تحظى بثقة المجلس التشريعي إلى حكومة تحظى بثقة من الرئيس فقط؛ للتأكيد على أنها حكومته، وتتبنى برنامجه الذي يتضمن الموافقة على الشروط الإسرائيليّة.
وفي هذا السياق، نلاحظ أن التركيز على تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات وتوحيد الأمن؛ جعل مسار المصالحة محكومًا عليه بالفشل، لأن هذه الملفات تتحكم بها إسرائيل تمامًا، ونجاحه يعني أن "حماس" وكل الأطراف الفلسطينيّة أصبحت في "بيت الطاعة" الإسرائيلي، وأعطت الشرعية لاتفاق أوسلو بالرغم من تجاوز إسرائيل له.
فإسرائيل تستطيع السماح بتشكيل الحكومة أو إجراء الانتخابات أو توحيد الأمن أو منع ذلك، بحيث توافق على كل هذه المسائل إذا جاءت في سياق عمليّة تفيد إسرائيل وتعمق احتلالها، وتمنعها إذا أدت إلى الإضرار بها أو لم تحقق مصالحها وأهدافها.
تأسيسًا على ما تقدم، فإن مفتاح الخلاص الوطني هو البحث عن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وتحقيق المصالحة في سياق إحياء المشروع الوطني وإعادة تشكيل المنظمة على أساس تمثيلي على أساس الانتخابات ومشاركة سياسية حقيقية، بحيث تكون قولًا وفعلًا هي الممثل الشرعي والوحيد، وتقدم القيادة الواحدة التي تقوم بوضع طاقات الشعب الفلسطيني، وموارده، وكفاءاته، وخياراته، وقواه، وفعالياته، في مجرى واحد قادر على تحقيق قضيته الوطنيّة، من خلال إنهاء الاحتلال وإنجاز الحريّة والعودة والاستقلال، وضمان حقوق الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.
إن ملف المنظمة هو الملف الذي يستحق أن يحظى بالأولويّة، لأنه يعني الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده، ولأن الاتفاق عليه ممكن من دون فيتو إسرائيلي، ويفتح الطريق للاتفاق على الملفات الأخرى بسهولة. فالاحتلال لا يستطيع منع الاتفاق الفلسطيني على إحياء المشروع الوطني وأداة تجسيد منظمة التحرير، بينما استطاع منع تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات إذا لم تلبِ الشروط الإسرائيليّة.
طبعًا، إن التركيز على ملف المنظمة سيغضب إسرائيل، ويمكن أن يترتب عليه إجراءات إسرائيليّة ضد المنظمة وقادتها وتحركاتهم، وهذا لا يغير من حقيقة أن استعادة المنظمة لدورها الفاعل هو المدخل الوحيد لإحياء القضيّة الفلسطينيّة مهما كان الثمن، والذي يجعل المصالحة ممكنة وتصب في صالح الفلسطينيين، وليس تقاسم حصص بين الفصائل وبعض الشخصيات الوطنيّة في إطار السلطة التي أصبح رئيسها يردد أنها أصبحت "بلا سلطة".
إن المصالحة، التي تعني إنهاء الانقسام، ممكنة فقط إذا جرت في سياق إحياء المشروع الوطني، وعندها يكون المواطن الفلسطيني مستعدًا لئن يخسر راتبه ويُضحي ويعاني من أجل قضيّته الوطنية ومستقبل أولاده ووطنه، أما الآن، فهو غير مستعد لئن يخسر راتبه وأمنه واستقراره مقابل مصالحة بين "فتح" و"حماس"، أي مقابل توزيع "كعكة السلطة"، فهذا أمر لا يستحق العناء.
إن الاستمرار في الاحتكام لقواعد اللعبة التي بدأت منذ توقيع اتفاق أوسلو لن يؤدي إلى تحرير الأرض أو الإنسان، ولا إلى الديمقراطيّة والتنمية، ولا إلى المصالحة، ولا إلى أي شيء آخر، وإنما في أحسن الأحوال سيؤدي إلى تحسين شروط حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال. لذا لا بد من الخروج من اللعبة كليًا والبحث عن مسار جديد قادر على تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني وأمانيه ومصالحه الفرديّة والعامة.
الخروج يمكن ألا يتم مرة واحدة، وليس من الضروري أن يكون بإلغاء اتفاق أوسلو رسميًّا، وإنما بتجاوزه عمليًا على أرض الواقع مثلما عملت إسرائيل، وهو ممكن وضروري لشق مسار جديد يربط الفلسطينيين بما يجري حولهم من متغيرات وثورات، وقادر على حماية القضيّة الفلسطينية وصولًا إلى انتصارها.